الخميس، 15 أكتوبر 2015

الهجرة النبوية ... دروس وعبر.


الهجرة النبوية ... دروس وعبر.


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

لَقَدِ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى البَشَرِيَّةِ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَالجَهْلِ إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ والعِلْمِ، ) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ( [آل عمران: 164].
وَلَقَدْ لَاقَى -صلى الله عليه وسلم- مِنْ قَوْمِهِ صُنُوفاً مِنَ الأَذَى مُنْذُ أَنْ بَدَأَ بِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلى التَّوْحِيدِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الشِّرْكِ ، فَقَالُوا عَنْهُ سَاحِرٌ وَكَذَّابٌ وَمَجْنُونٌ وَشَاعِرٌ، وَأَلْقَوْا عَلَى ظَهْرِهِ سَلَى الجَزُورِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَضَرَبُوهُ وَخَنَقُوهُ، وَسَلَّطُوا عَلَيْهِ صِبْيانَهُمْ وَسُفَهَاءَهُمْ فَلَحِقُوهُ وَرَمَوْهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى دَمِيَتْ قَدَمَاهُ، وَحَاوَلُوا قَتْلَهُ وَقَاتَلُوهُ، وَغَيْرَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الأَذَى، وكَانَ -صلى الله عليه وسلم- صَابِراً مُحْتَسِباً مُمْتَثِلاً لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ( [الأحقاف: 35]، وَقَدْ هَيَّأَ اللهُ لَهُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلَامِ، وَبَعَثَ مَعَهُمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ -رضي الله عنه- لِيُعَلِّمَهُمُ القُرْآنَ وَشَرَائِعَ الدِّينِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَجِّ السَّنَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبِعْثَةِ، وَتُسَمَّى بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ الأُولَى، وَفِي حَجِّ السَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنَ البِعْثَةِ بَايَعَهُ ثَلاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلاً وَامْرَأَتَانِ عَلَى الإِسْلامِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالمَنَعَةِ، وَهِيَ بَيْعَةُ العَقَبَةِ الثَّانِيَةُ.

وَبَعْدَ هَذِهِ البَيْعَةِ أَذِنَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ -رضي الله عنهم- بِالهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ بَعْدَ اضْطِهَادِ قُرَيْشٍ لَهُمْ وَفِتْنَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَتَتَابَعَ المُؤْمِنونَ فِي الهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ دَارِ الإِسْلَامِ الجَدِيدَةِ. وَعَنْدَمَا أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي الله عنه- الهِجْرَةَ لِلْمَدِينَةِ اسْتَبْقَاهُ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِيَصْحَبَهُ فِي هِجْرَتِهِ حِينَ يُؤْذَنُ لَهُ، وَظَلَّ يَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ اليَوْمِ فَاشْتَرَى رَاحِلَتَيْنِ وَأَخَذَ يَعْلِفُهُمَا مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
وعَنْدَمَا عَلِمَتْ قُرَيْشٌ بِمَا تَمَّ بَيْنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَالأَنْصَارِ، وَهِجْرَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لِلْمَدِينَةِ، وَتَكْوِينِ دَوْلَةٍ لَهُمْ فِيهَا، أَيْقَنُوا مِنْ خُرُوجِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهَا وَلِذَلِكَ عَقَدُوا اجْتِمَاعاً فِي دَارِ النَّدْوَةِ لِيَبْحَثُوا أَنْجَعَ السُّبُلِ لِلْقَضَاءِ عَلَى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَدَعْوَتِهِ، وَقَدْ حَضَرَ الشَّيطَانُ الرَّجِيمُ هَذَا الاجْتِمَاعَ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ نَجْدِيٍّ، فَأَخَذُوا يَقْتَرِحُونَ الاقْتِرَاحَاتِ بِالسَّجْنِ وَالنَّفْيِ وَغَيْرِهِمَا وَالشَّيْطَانُ يُخَذِّلُ هَذَا كُلَّهُ، حَتَّى قَالَ عَدُوُّ اللهِ أَبُو جَهْلٍ: «إِنَّ لِي فِيهِ رَأْياً مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ، نَأْخُذُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابّاً جَلِيداً نَسِيباً وَسِيطاً فِينَا، وَنُعْطِي كُلًّا مِنْهُمْ سَيْفَاً صَارِماً، ثُمَّ يَعْمَدُونَ إِلَيْهِ وَيَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُونَهُ، فَيُفَرَّقُ دَمُهُ فِي القَبائِلِ فَلَا يَقْدِرُ بَنُو عَبْدِ مَنافٍ عَلَى حَرْبِ قُرَيْشٍ كُلِّهِمْ، فَيَرْضَوْنَ بِالدِّيَةِ فَنُعْطِيهَا لَهُمْ»، فَقَالَ الشَّيْطانُ: «القَوْلُ مَا قَال َالرَّجُلُ، هَذَا الرَّأْيُ الَّذِي لَا رَأْيَ غَيْرُهُ»، واتَّفَقُوا جَمِيعاً عَلَى هَذَا الرَّأْيِ وَبَدَؤُوا فِي تَنْفِيذِهِ، وَفِي هَذَا يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ  ([الأنفال: 30].

وَأَذِنَ اللهُ لِرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالهِجْرَةِ فَخَرَجَ فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ وَقْتَ رَاحَةِ النَّاسِ إِلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه- وَأَخْبَرَهُ بَأَمْرِ الهِجْرَةِ وَصُحْبَتِهِ لَهُ وَجَهَّزَا لَهَا وَاسْتَأْجَرا عَبْدَ اللهِ بْنَ أُرَيْقِطٍ -وَكَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ- دَلِيلاً لَهُمَا فِي الطَّرِيقِ وَوَاعَدَاهُ بَعْدَ ثَلاثِ لَيَالٍ فِي غَارِ ثَوْرٍ، وَأَمَرَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ مَكْرُوهٌ، فَلَمَّا نَامَ النَّاسُ جَاءَ المُتَآمِرُونَ وَطَوَّقُوا مَنْزِلَ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَأَوْا عَلِيّاً نَائِماً فَظَنُّوهُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَانْتَظَرُوا خُرُوجَهُ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ عِنْدَ الكَعْبَةِ. فَخَرَجَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَذَرَّ التُّرَابَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَ اللهِ تَعَالى: ) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ( [يس: 9]، فَأَعْمَى اللهُ أَبْصَارَهُمْ وَلَمْ يَرَوْهُ حِينَ خَرَجَ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى دَارِ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه- وَمِنْهَا إِلَى غَارِ ثَوْرٍ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- مَرَّةً يَمْشِي خَلْفَهُ وَمَرَّةً أَمَامَهُ، وَعِنْدَمَا سأَلَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، وَأَذْكُرُ الرَّصْدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ كَانَ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ». [رَوَاهُ الحَاكِمُ مُرْسَلاً وَصَحَّحَهُ].وَلَمَّا وَصَلا الغَارَ دَخَلَهُ أَوَّلاً أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- وَقَالَ: «مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الغَارَ- أَيْ أَتَأَكَّدُ خُلُوَّهُ مِنَ الهَوَامِ لِئَلَّا يُصيِبَكَ مَكْرُوهٌ- ثُمَّ لَمَّا اسْتَبْرَأَهُ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللهِ» [رَوَاهُ الحَاكِمُ مُرْسَلاً وَصَحَّحَهُ].

وَلَمَّا خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- مِنْ بَيْتِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَلِمَ الكُفَّارُ بِخُرُوجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَخَذُوا فِي طَلَبِهِ، وَوَضَعُوا المُكَافَآتِ لِمَنْ يَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ، وَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى جَبَلِ ثَوْرٍ وَوَصَلُوا إِلَى الغَارِ رَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ عَنْكَبُوتٍ [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَحَسَّنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ]، وَلمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- أَصْوَاتَهُمْ خَافَ وَحَزِنَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «يَا أَبَا بَكْرٍ: مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]، وَفِي هَذَا نَزَلَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: ) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا( [التوبة: 40].

وَلمَّا انْقَطَعَ الطَّلَبُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَكْمَلُوا طَرِيقَهُمْ إِلَى المَدِينَةِ عَنْ طَرِيقِ السَّاحِلِ وهُوَ غَيْرُ الطَّرِيقِ المُعْتَادِ، وَالمُؤْمِنُونَ مُتَلَهِّفُونَ لِلِقَاءِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرُؤْيَتِهِ، وَكَانُوا يَخْرُجُونَ كُلَّ يَوْمٍ لِأَطْرَافِ المَدِينَةِ يَنْتَظِرُونَهُ، وَلمَّا وَصَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- المَدِينَةَ فَرِحُوا بِهِ وَكَبَّرُوا، وَقِيلَ: إِنَّهَمُ أَنْشَدُوا:

طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا
مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاعِ

وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا
مَا دَعَا لِلَّهِ داَعِ

أَيُّهَا الْمَبْعُوثُ  فِينَا
جِئْتَ بِالأَمْرِ الْمُطَاعِ

وَكُلَّما وَصَلَ دَارَ قَوْمٍ مِنَ الأنْصَارِ أَخَذُوا بِخِطامِ نَاقَتِهِ وَسَأَلُوهُ المُقَامَ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُوَرةٌ»، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى مَكانِ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بَرَكَتْ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ عَمَلٍ عَمِلَهُ بِالمَدِينَةِ، ثُمَّ آخَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَعَمِلَ مِيثَاقاً يُنَظِّمُ العَلَاقَاتِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَمُشْرِكِي المَدِينَةِ مِنْ جِهَةٍ، وَبَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَاليَهُودِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.

وبعد ذلك بدأت معالم انطلاق الدعوة الإسلامية إلى العالمية
وفِي الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ دُرُوسٌ كَثِيرَةٌ وَعِبَرٌ عَدِيدَةٌ، مِنْهَا

أن الْهِجْرَةُ إِلَى المَدِينَةِ انْقَطَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، وَلَكِنَّ هِجْرَةَ الذُّنُوبِ وَالْمَعاصِي إِلَى التَّوْبَةِ وَالطَّاعَةِ وَالخَيْرِ لَمْ تَنْتَهِ وَلَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى قَيَامِ السَّاعَةِ؛ فَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ: «المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ].

وفيها بيان أَهَمِيَّةُ بَذْلِ الأسْبَابِ المَادِّيَّةِ مَعَ التَوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَهِجْرَةُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه- وَاتِّخَاذُ دَلِيلٍ لَهُمَا وَاخْتِبَاؤُهُمَا فِي غَارِ ثَوْرٍ، وَسُلُوكُهُمْ طَرِيقَ السَّاحِلِ وَغَيْرُهَا مِمَّا حَصَلَ فِي هِجْرَةِ المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- كُلُّهَا أَسْبَابٌ لِلنَّجَاةِ مِنْ كَيْدِ الفُجَّارِ، وَلِنَشْرِ الدِّينِ وَتَأْسِيسِ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالِانْطِلَاقِ مِنْهَا نَحْوَ العَالَمِيَّةِ، وَقَدْ بَارَكَ اللهُ فِي هَذِهِ الأَسْبَابِ وَأَيَّدَهَا، فَلَمْ يَبْقَ بَلَدٌ إِلَّا وَحَلَّ فِيهِ الإِسْلَامُ وَلِلَّهِ الحَمْدُ.

وَفِيهَا بيان فَضِيلَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه- إِذِ اخْتَارَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صُحْبَتَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَذَكَرَهُ اللهُ فِي كِتابِهِ وَوَصَفَهُ بِصُحْبَةِ نِبِيِّهِ،) إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا   ( [التوبة: 40].

وَقَبُولُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- النَّوْمَ فِي فِرَاشِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةَ الهِجْرَةِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَى إِيمَانِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَاسْتِعْدَادِهِ لِلتَّضْحِيَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ دَوْرِ الشَّبَابِ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ وَتَمْكِينِهِ.

وَفِيهَا بيان أَهَمِّيَّةُ المَسْجِدِ ودَوْرُهُ الرِّيادِيُّ فِي تَأْسِيسِ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ وَترْسِيخِ أَرْكَانِهَا، فَيَنْبَغِي العِنَايَةُ بِالمَساجِدِ وَعِمارَتُهَا وَالِارْتِباطُ بِهَا وَتَعْلِيقُ النَشْءِ المُسْلِمِ بِهَا.

وَكَذَلِكَ أَثَرُ المُؤَاخَاةِ وَالتَّكافُلِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ فِي قُوَّةِ المُجْتَمَعِ وَتَمَاسُكِهِ وَصَلَابَتِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى مُوَاجَهَةِ الأَخْطَارِ الخَارِجِيَّةِ وَالدَّاخِلِيَّةِ. وَكَذَا أَهَمِّيَّةُ تَنْظِيمِ التَّعايُشِ السِّلْمِيِّ بَيْنَ الطَّوَائِفِ وَالدِّياناتِ وَفْقَ مَبادِئِ الشَّرِيعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَسَنِّ القَوَانِينِ فِي ذَلِكَ لِاسْتِقْرَارِ المُجْتَمَعِ دَاخِلِيّاً، وَلْيَأْخُذْ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرادِهِ حُقُوقَهُ كَامِلَةً، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ وَاجِبَاتِهِ تِجَاهَ مُجْتَمَعِهِ.

هذه بعض الفوائد والعبر وإلا فهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- مليئة بالفوائد والدروس والعبر.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه/
د. عبدالرحمن عبدالله الجرمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق